سورة الإسراء - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا} استفهامٌ إنكاريٌّ مفيدٌ لكمال الاستبعادِ والاستنكارِ للبعث بعد ما آل الحالُ إلى هذا المآل لِما بين غضاضةِ الحيِّ ويُبوسة الرميم من التنافي، كأن استحالةَ الأمر من الظهور بحيث لا يقدر المخاطبُ على التكلم به، والرفاتُ ما بولغ في دقِّه وتفتيته، وقال الفرَّاء: هو التراب، وهو قولُ مجاهدٍ، وقيل: هو الحُطامُ وإذا متمحّضةٌ للظرفية وهو الأظهرُ والعاملُ فيها ما دل عليه قوله تعالى: {أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لا نفسُه، لأن ما بعد إن والهمزةِ واللام لا يعمل فيما قبلها وهو نبعث أو نعاد وهو المرجِعُ للإنكار وتقييدُه بالوقت المذكور ليس لتخصيصه به فإنهم منكرِون للإحياء بعد الموت وإن كان البدنُ على حاله، بل لتقوية الإنكارِ للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافيةٍ له، وتكريرُ الهمزة في قولهم: {أئنا} لتأكيد النكيرِ، وتحليةُ الجملة بأن واللامِ لتأكيد الإنكارِ لا لإنكار التأكيد كما عسى يُتوَّهم من ظاهر النظمِ، فإن تقديمَ الهمزة لاقتضائها الصدارةَ كما في مثل قوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ونظائرِه على رأي الجمهور فإن المعنى عندهم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التعقيب كما هو المشهور، وليس مدارُ إنكارِهم كونَهم ثابتين في المبعوثية بالفعل في حال كونِهم عظاماً ورفاتاً كما يتراءى من ظاهر الجملةِ الاسمية بل كونِهم بعَرَضية ذلك واستعدادِهم له، ومرجعُه إلى إنكار البعثِ بعد تلك الحالةِ وفيه من الدِلالة على غلوّهم في الكفر وتماديهم في الضلال ما لا يزيد عليه {خَلْقاً جَدِيداً} نصْبٌ على المصدر من غير لفظه، أو الحاليةِ على أن الخلق بمعنى المخلوق.
{قُلْ} جواباً لهم وتقريباً لما استبعدوه {كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} {أَوْ خَلْقًا} آخرَ {مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ} أي يعظُم عندكم عن قبول الحياة لكمال المباينةِ والمنافاةِ بينها وبينه، فإنكم مبعوثون ومُعادون لا محالة {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا} مع ما بيننا وبين الإعادةِ من مثل هذه المباعدةِ والمباينة {قُلْ} لهم تحقيقاً للحق وإزاحةً للاستبعاد وإرشاداً لهم إلى طريقة الاستدلال {الذى} أي يعيدكم القادرُ العظيم الذي {فَطَرَكُمْ} اخترعكم {أَوَّلَ مَرَّةٍ} من غير مثالِ يحتذيه ولا أسلوبٍ ينتحيه وكنتم تراباً ما شمّ رائحةَ الحياة، أليس الذي يقدِر على ذلك بقادر على أن يعيدَ العظامَ الباليةَ إلى حالتها المعهودة؟ بلى إنه على كل شيء قدير {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} أي سيحركونها نحوَك تعجباً وإنكاراً {وَيَقُولُونَ} استهزاءً {متى هُوَ} أي ما ذكرتَه من الإعادة {قُلْ} لهم {عسى أَن يَكُونَ} ذلك {قَرِيبًا} نُصب على أنه خبرٌ ليكون أو ظرفٌ على أن كان تامةٌ أي أن يقعَ في زمان قريب، ومحلُّ أن مع ما في حيزها إما نصبٌ على أنه خبرٌ لعسى وهي ناقصة واسمُها ضميرٌ عائد إلى ما عاد إليه هو أي عسى كونُه قريباً، أو وقوعُه في زمان قريب.


{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} منصوب بفعل مضمر أي اذكروا، أو على أنه بدلٌ من قريباً على أنه ظرفٌ أو نُصب بيكونَ تامةً بالاتفاق، أو ناقصةً عند من يجوّز إعمالَ الناقصة في الظروف، أو بضمير المصدرِ المستكنِّ في عسى أو يكون، أعني البعث عند من يجوز إعمالَ ضمير المصدر كما في قول زهير:
وما الحربُ إلا ما علمتمْ وذُقتم *** وما هو عنها بالحديث المُرجّمِ
فهو ضميرُ المصدر وقد تعلق به ما بعده من الجار {فَتَسْتَجِيبُونَ} أي يوم يبعثكم فتُبعثون، وقد استُعير لهما الدعاءُ والإجابة إيذاناً بكمال سهولةِ التأتّي وبأن المقصودَ منهما الإحضارُ للمحاسبة والجواب {بِحَمْدِهِ} حال من ضمير تستجيبون أي منقادين له حامدين لما فَعل بكم غيرَ مستعصين، أو حامدين له تعالى على كمال قدرتِه عند مشاهدة آثارها ومعاينةِ أحكامها {وَتَظُنُّونَ} عطف على تستجيبون أي تظنون عندما ترَوْن من الأمور الهائلة {إِن لَّبِثْتُمْ} أي ما لبثتم في القبور {إِلاَّ قَلِيلاً} كالذي مر على قرية أو ما لبثتم في الدنيا.
{وَقُل لّعِبَادِى} أي المؤمنين {يَقُولُواْ} عند محاورتِهم مع المشركين {التى} أي الكلمةَ التي {هِىَ أَحْسَنُ} ولا يخاشنوهم كقوله تعالى: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ} {إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} أي يُفسد ويَهيج الشر والمِراء ويُغري بعضَهم على بعض لتقع بينهم المشاقّةُ والمشارّة والمُعازّة والمضارّة، فلعل ذلك يؤدي إلى تأكد العِناد وتمادي الفساد، فهو تعليلٌ للأمر السابق وقرئ بكسر الزاي {إِنَّ الشيطان كَانَ} قدماً {للإنسان عَدُوّا مُّبِينًا} ظاهرَ العداوة، وهو تعليلٌ لما سبق من أن الشيطان ينزَغ بينهم.
{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} بالتوفيق للإيمان {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ} بالإماتة على الكفر، وهذا تفسيرُ التي هي أحسنُ وما بينهما اعتراضٌ، أي قولوا لهم هذه الكلمةَ وما يشاكلها ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه مما يَهيجهم على الشر، مع أن العاقبَة مما لا يعلمه إلا الله سبحانه فعسى يهديهم إلى الإيمان {وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} موكولاً إليك أمورُهم تقسِرهم على الإيمان وإنما أرسلناك بشيراً ونذيراً فدارِهم ومُرْ أصحابَك بالمداراة والاحتمال وترك المُحاقّة والمشاقّة وذلك قبل نزول آيةِ السيف، وقيل: نزلت في عمر رضي الله عنه، شتمه رجلٌ فأُمر بالعفو، وقيل: أفرط أذيةُ المشركين بالمؤمنين فشكَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وقيل: الكلمة التي هي أحسنُ أن يقولوا: يهديكم الله ويرحمكم الله.
{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السموات والأرض} وبتفاصيلِ أحوالِهم الظاهرة والكامنة التي بها يستأهلون الاصطفاءَ والاجتباءَ فيختار منهم لنبوته وولايتِه من يشاء ممن يشاء ممن يستحقه، وهو ردٌّ عليهم إذ قالوا: بعيدٌ أن يكون يتيمُ أبي طالبٍ نبياً وأن يكون العُراةُ الجوعى أصحابَه دون أن يكون ذلك من الأكابر والصناديدِ، وذكرُ من في السموات لإبطال قولِهم: لولا أُنزل علينا الملائكةُ، وذكرُ مَن في الأرض لرد قولِهم: {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ} بالفضائل النفسانيةِ والتنّزهِ عن العلائق الجُسمانية لا بكثرة الأموالِ والأتباع {وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً} بيانٌ لحيثية تفضيلِه عليه الصلاة والسلام فإن ذلك إيتاءُ الزبور لا إيتاءُ الملك والسلطنةِ، وفيه إيذانٌ بتفضيل النبي عليه الصلاة والسلام فإن نعوتَه الجليلةَ وكونَه خاتمَ النبيين مسطورةٌ في الزبور، وأن المرادَ بعباد الله الصالحين في قوله تعالى: {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون} هو النبيُّ عليه الصلاة والسلام وأمته، وتعريفُ الزبور تارة وتنكيرُه أخرى إما لأنه في الأصل فَعولٌ بمعنى المفعول كالحَلوب أو مصدر بمعناه كالقول، وإما لأن المرادَ آتينا داودَ زبوراً من الزُّبُر، أو بعضاً من الزبور فيه ذكرُه عليه الصلاة والسلام، وقرئ بضم الزاي على أنه جمع زِبْر بمعنى مزبور.


{قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم} أنها آلهةٌ {مِن دُونِهِ} تعالى من الملائكة والمسيحِ وعُزيرٍ {فَلاَ يَمْلِكُونَ} فلا يستطيعون {كَشَفَ الضر عَنْكُمْ} بالمرة كالمرض والفقر والقَحطِ ونحو ذلك {وَلاَ تَحْوِيلاً} أي ولا تحويلَه إلى غيركم {أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ} أي أولئك الآلهةُ الذين يدعوهم المشركون من المذكورين {يَبْتَغُونَ} يطلبون لأنفسهم {إلى رَبّهِمُ} ومالكِ أمورِهم {الوسيلة} القربةَ بالطاعة والعبادة {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} بدلٌ من فعل يبتغون وأيُّ موصولةٌ، أي يبتغي مَنْ هو أقرب إليه تعالى الوسيلةَ فكيف بمن دونه؟ أو ضُمّن الابتغاءُ معنى الحِرص فكأنه قيل: يحرِصون أيُّهم أقربَ إليه تعالى بالطاعة والعبادة {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} بها {ويخافون عَذَابَهُ} بتركها كدأب سائرِ العباد فأين هم من كشف الضرِّ فضلاً عن الإلهية {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا} حقيقاً بأن يحذرَه كلُّ أحدٍ حتى الملائكةُ والرسلُ عليهم الصلاة والسلام، وهو تعليلٌ لقوله تعالى: {ويخافون عَذَابَهُ} وتخصيصُه بالتعليل لما أن المقامَ مقامُ التحذيرِ من العذاب وأن بينهم وبين العذاب بَوناً بعيداً.
{وَإِن مّن قَرْيَةٍ} بيانٌ لتحتم حلول عذابِه تعالى بمن لا يحذره إثرَ بيانِ أنه حقيقٌ بالحذر وأن أساطينَ الخلق من الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام على حذر من ذلك، وكلمةُ إنْ نافيةٌ ومِنْ استغراقيةٌ، والمرادُ بالقرية القريةُ الكافرةُ أي ما من قرية من قرى الكفار {إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} أي مُخْرِبوها البتةَ بالخسف بها أو بإهلاك أهلِها بالمرة لما ارتكبوا من عظائمِ المُوبقات المستوجبةِ لذلك، وفي صيغة الفاعلِ وإن كانت بمعنى المستقبَل ما ليس فيه من الدِلالة على التحقق والتقرّرِ وإنما قيل: {قَبْلَ يَوْمِ القيامة} لأن الإهلاكَ يومئذ غيرُ مختصَ بالقرى الكافرة ولا هو بطريق العقوبةِ وإنما هو لانقضاء عمرِ الدنيا {أَوْ مُعَذّبُوهَا} أي معذبو أهلِها على الإسنادِ المجازيِّ {عَذَاباً شَدِيداً} لا بالقتل والسبْي ونحوِهما من البلايا الدنيويةِ فقط، بل بما لا يُكتَنه كُنهُه من فنون العقوبات الأخرويةِ أيضاً حسبما يُفصح عنه إطلاقُ التعذيبِ عما قُيد به الإهلاكُ من قَبْلية يومِ القيامة، كيف لا وكثيرٌ من القرى العاتية العاصيةِ قد أُخّرت عقوباتُها إلى يوم القيامة {كَانَ ذَلِكَ} الذي ذكر من الإهلاك والتعذيب {فِى الكتاب} أي اللوح المحفوظ {مَسْطُورًا} مكتوباً لم يغادَرْ منه شيءٌ إلا بُيِّن فيه بكيفياته وأسبابِه الموجبةِ له ووقتِه المضروبِ له. هذا وقد قيل: الهلاكُ للقُرى الصالحة والعذابُ للطالحة، وعن مقاتل: «وجدتُ في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها أما مكةُ فُيْخرِبها الحبشةُ وتهلِك المدينةُ بالجوع والبصرةُ بالغرق والكوفةُ بالتُّرك والجبالُ بالصواعق والرواجف، وأما خراسانُ فهلاكُها ضُروبٌ ثم ذكرها بلداً بلداً، وقال الحافظ أبو عمْرو الداني في كتاب الفتن: أنه رُوي عن وهْب بن منبّه أن الجزيرةَ آمنةٌ من الخراب حتى تخرَبَ أرمينيةُ، وأرمينيةُ آمنةٌ حتى تخرَب مصرُ، ومصرُ آمنةٌ حتى تخرَبَ الكوفةُ ولا تكون الملحمةُ الكبرى حتى تخرَب الكوفةُ، فإذا كانت الملحمةُ الكبرى فُتحت قُسطنطينةُ على يَديْ رجلٍ من بني هاشم، وخرابُ الأندلس من قِبَل الزَّنْج، وخرابُ إفريقيةَ من قِبَل الأندلس، وخرابُ مصرَ من انقطاع النيلِ واختلافِ الجيوش فيها، وخرابُ العراقِ من الجوع، وخرابُ الكوفة من قِبل عدوَ من ورائهم يحصُرهم حتى لا يستطيعون أن يشربوا من الفرات قطرةً، وخرابُ البصرة من قِبل الغرق، وخرابُ الأَيْلة من قبل عدوَ يحصُرهم برًّا وبحراً، وخرابُ الرّيّ من الديلم، وخرابُ خراسانَ من قبل التّبْت، وخرابُ التبت من قبل الصّين، وخرابُ الهندِ واليمن من قبل الجرَاد والسلطان، وخرابُ مكةَ من الحبشة، وخرابُ المدينة من الجوع».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «آخرُ قريةٍ من قرى الإسلام خراباً المدينةُ» وقد أخرجه العمري من هذا الوجه. وأنت خبيرٌ بأن تعميمَ القريةِ لا يساعده السباقُ ولا السياق.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11